الفصل الخامس برقيات حول العالم

تقريبًا في نفس الوقت الذي بدأت فيه العمل آخذًا مبادئي الجديدة في الاعتبار، وقّعت عقدًا للقيام بجولةٍ لمدة عامين حول العالم مع فريقي الراقص. وبمجرد ذلك، واجهت الكثير من الصعوبات. كيف على سبيل المثال يمكنني المتاجرة وأنا على الجانب الآخر من العالم؟ وعلى الفور وبشكل واضح جدًّا، خطرت بذهني الحادثة، عندما لم يجدني سمساري على الهاتف. فإذا كان هذا من الممكن أن يحدث في نيويورك، فكيف لي أن أتغلب على هذه المشكلة إذا كنت على بعد آلاف الأميال؟ ناقشت المشكلة مع سمساري، وقررنا أننا من الممكن أن نظل على اتصال من خلال خدمة التلغراف أو البرقيات.

كذلك فقد اتفقنا على أداة واحدة – وهي جُرنال “البارونز” Barron’s – وهي صحيفة مالية أسبوعية، رتبنا لها أن يتم شحنها جوًّا لي بمجرد أن تصدُر. هذه كانت ستعرض لي أي سهم قد يكون متحركًا لأعلى. وفي نفس الوقت ستصلني بصورةٍ يوميةٍ برقية بأسعار الأسهم التي أمتلكها. وحتى لو كنت في مناطق نائية مثل كاشمير أو نيبال – حيث سأؤدي فقرتي في الرحلة – فسيصلني التلغراف اليومي على نحوٍ وافٍ. إنه يحتوي على سعر إغلاق بورصة وول ستريت للأسهم التي أمتلكها.

توفيرًا للوقت والنفقات، فقد توصلت لكود خاص لكتابة التلغرافات مع سمساري في نيويورك؛ فبرقياتي تتكون فقط من مجموعة من الحروف ترمز للأسهم، وكل منها متبوع بسلسلة من الأرقام غير واضحة المعنى. كانت البرقيات تبدو كشيءٍ من هذا القبيل:

“ب 32 ½ ل 57 ي 89 ½ أ 120 ¼ ف 132 ¼”

لقد استغرقني الأمر بضعة أيام فقط لأكتشف أن هذه الرسائل لا تفي بالغرض منها بالنسبة لي في متابعة أسهمي. فلم أكن قادرًا على تحديد القوالب بدون معرفة الحدود العليا والسفلى لحركة أسعار الأسهم. فكلمت نيويورك وطلبت من سمساري أن يضيف لكل سعرِ إغلاقٍ، التفاصيلَ الكاملة لحركة سعر السهم اليومية، وذلك يشمل الحد الأعلى والأدنى لحركة السهم اليومية. والآن التلغراف الخاص بي أصبح يبدو هكذا:

“ب 32 ½ (34 ½ -32 ⅜) ل 57 (58 ⅝ -57) ي 89 ½ (91 ½ -89) أ 120 ¼ (121 ½ -120 ¼) ف 132 ¼ (134 ⅞ -132 ¼)”

لم أطلب إضافة حجم التداول لأنني خفتُ أن يزدحم التلغراف بالكثير من الأرقام. إن أسهمي كانت مرتفعة حجم التداول على أي حال، وفكرت أن حجم التداول لو انخفض، فإنني سألاحظ ذلك من خلال صحيفة البارونز بعدها بعدة أيام.

ولأنني كنت أعرف أنا وسمساري أي الأسهم كُنا نتبع، فقد استعملنا فقط الحرف الأول من اسم السهم الذي أمتلكه. ولكن لأن هذه لم تكن الرموز التقليدية للأسهم المعروفة حول العالم، فإن ذلك الأمر كان يُزعج عمَّال مكاتب البريد تقريبًا في كل مكان. وقبل أن يسلموني برقياتي، كان عليَّ في البداية أن أشرح لهم بالتفصيل ما معنى المحتوى.

من المؤكد أنهم اعتقدوا أنني جاسوس. لقد واجهت باستمرار هذه الشكوك، خصوصًا في الشرق الأقصى. وربما كان الأسوأ في اليابان. فعمال التلغراف هناك كانوا أكثر شكًّا من أي مكان آخر، فيبدو أن السلك الوظيفي في اليابان لم يتخلص بعد من هوس الحرب. فأينما ذهبت لمدينة جديدة مثل كيوتو أو ناجويا أو أوساكا فإن عمال التلغراف ينظرون لي بشك بالغ.

كان عليَّ دائمًا الدخول في تفسير طويل. وحيث إنني لا أتكلم اليابانية، فإجراء ذلك كان عملية معقدة. والغريب، أنه كان يبدو عليهم الرضا بمجرد أن أوقع على ورقة مكتوب فيها بالضبط محتوى برقياتي. قد لا يكون المكتوب في الورقة هو الحقيقة، ولكن يبدو أن ذلك لم يخطر ببالهم. ومن ناحية أخرى، فبدون هذه الورقة التي تحمل توقيعي، فإنهم يرفضون إرسال برقياتي.

لقد تطلب منى الكثير من الوقت لأغير من طريقة تفكيرهم. لقد قضيت ستة أشهر في اليابان قبل أن أصبح وجهًا مألوفًا في مكاتب التلغرافات داخل معظم المدن الكبرى، حتى بدؤوا يتقبلون برضا برقياتي بدون توقيع خاص. لقد انتشر الخبر بين اليابانيين بأنني مجنون، ولكني غير مؤذٍ. مجرد رجل أوروبي يستمر في إرسال وتلقي البرقيات التي تحتوي على ثرثرة مالية.

خلال جولتي حول العالم، امتدت رحلتي من هونج كونج إلى إسطنبول، ورانغون، ومانيلا، وسنغافورة، وستوكهولم، وفورموزا، وكالكوتا، واليابان وأماكن أخرى كثيرة. وبطبيعة الحال كنت دائمًا ما أواجه صعوبات أخرى في محاولة إرسال واستقبال التلغرافات الخاصة بي.

واحدة من المشاكل الكبيرة كانت أنني يجب أن أكون حريصًا خلال تنقلاتي على ألا أفوِّت أحد هذه التلغرافات. لذلك عندما كنت أتنقل، كنت أضاعفها مرتين وأحيانًا ثلاث مرات. لقد كان شائعًا لنفس التلغراف أن يترك وول ستريت بعنوان إلى مطار هونج كونج، ثم يُعاد إرساله لمطار طوكيو، ثم يُعاد إرساله إلى فندق نيكاتوسو في طوكيو. هذه الترتيبات مكنتني – إذا فوَّت التلغراف في أثناء الرحلة – من أن التقطه فورًا بعد الهبوط. إن الصعوبات التي واجهتني في العمل في وول ستريت من فيينتيان في لاوس، على سبيل المثال، كانت هائلة. أولاها أنه لم يكن هناك شبكة تليفونات هناك على الإطلاق. كان الهاتف المحلي الوحيد بين البعثة العسكرية الأمريكية والسفارة الأمريكية الذي – بطبيعة الحال – كان لا فائدة منه بالنسبة لي. إذا أردت أن أُرسل أو أجمع أي رسائل، اضطررت إلى أخذ عربة يد هندية – تُسمي بالهندية “ريكاشة” – لمكتب البريد الذي يفتح فقط لثماني ساعات في اليوم، والذي يغلق على دقة الساعة.

وحيث إن هناك اثنتي عشرة ساعة فرقًا بين التوقيت المحلي وتوقيت نيويورك، فإن مكتب البريد يكون مغلقًا من وقت الافتتاح حتى وقت الإغلاق في وول ستريت. كنت دائمًا متوترًا وقلقًا إذا كانت هناك أخبار من سوق الأسهم معلقة ولم تصلني.

في أحد الأيام عندما ذهبت لمكتب البريد لاستلام تِلغراف ينتظرني بعد أن أعيد إرساله من سايغون إلى هونج كونج ثم أعيد إرساله من هونج كونج إلى فينتيان. فتحته بقلق، ظنًّا أن التأخير بالتأكيد يحمل كارثة. ولكن لحسن الحظ لم يكن يحمل معلومات كنت مضطرًّا للعمل عليها.

ولكن لاوس لم تكن سوى أحد الأماكن التي واجهت صعوبات بها. في كاتماندو عاصمة نيبال في الهيمالايا، لم تكن هناك خدمة تِلغراف على الإطلاق. التلغراف الوحيد كان في السفارة الهندية وكل الاتصالات التلغرافية مع العالم الخارجي كانت تتم هناك. موظفو مكتب السفارة كانوا يعتبرون إرسال تِلغرافات لعامة الناس أمرًا يُقل من شأنهم. وعندما يصلني تِلغراف، لا يرسلونه لي، وكان عليَّ الاتصال بالسفارة باستمرار لكي أرى إن كان هناك أي تِلغراف لي. في بعض الأحيان، كان عليَّ الاتصال عشر مرات حتى يطلبوا مني أن أذهب إليهم وأجمع ما يخصني من تِلغرافات. علاوة على ذلك، فقد كانت مكتوبة بخط اليد، وغالبًا تصعب قراءتها.

وكانت الآليات الأساسية للإجراءات الخاصة بي كما يلي:

صحيفة البارونز كانت تصدُر في بوسطن يوم الاثنين، وغالبًا ما تصلني إذا كُنت في أستراليا أو الهند أو أي جزءٍ بعيدٍ من العالم بحلول يوم الخميس. ذلك يعني أنني كنت متأخرًا عن معرفة تحركات وول ستريت بأربعة أيام. رغم ذلك، فعندما كنتُ أرى في صحيفة البارونز سهمًا يتصرف وفقًا لنظريتي، كنت أرسل برقية لسمساري أطلب منه أن يرسل لي حتى اليوم حركة السهم من الاثنين للخميس. على سبيل المثال:

“أرسل لي المدى الأسبوعي وسعر الإغلاق لسهم كرايسلر”

فإذا بدا لي السهم – من خلال وجهة نظري – كسهم يتصرف بصورة جيدة في صندوق 60/65، كنت أنتظر لأرى إن كانت أسعار الأيام الأربعة الأخيرة القادمة من نيويورك ما زالت تُظهر ذلك. إذا أظهرت الأسعار أنه ما زال يتحرك داخل الصندوق، كنت أقرر متابعته، فكنت أطلب من سمساري أن يرسل لي بياناته يوميًّا لأرى إن كان يضغط ليرتفع لصندوق أعلى. إذا رضيت عمَّا أرى، كنت أرسل برقية لنيويورك بأمر شراء مُعلق، يصنفه سمساري كأمر ساري المفعول، إلى أن يتم إلغاؤه، ما لم يُنص على خلاف ذلك. وكان دائمًا ما يُرسل متبوعًا بأمر وقف خسائر في حالة أن هبط السهم مباشرة بعد شرائه. وكان شكل التلغراف المثالي يبدو هكذا:

“اشتري 200 كرايسلر 67 مُعلق 65 وقف خسائر”

من الناحية الأخرى، لو عرفت من تِلغراف سمساري أن السهم قفز خارج صندوق 60/65 منذ أن لاحظته في صحيفة البارونز، كنت أتركه؛ فلقد أصبح الوقت متأخرًا بالنسبة لي على التصرف، وعليَّ انتظار فرصة أخرى.

وبطبيعة الحال، كان عليَّ أن أضيِّق مجال عملياتي لعدد محدود من الأسهم، والسبب كان اقتصاديًّا تمامًا؛ فإذا أنفقت أكثر من 12 إلى 15 دولارًا يوميًّا على البرقيات طلبًا لمعرفة أسعار الأسهم، فإن العملية لن تصبح مجدية اقتصاديًّا إلا لو حققت عوائد هائلة.

في البداية كنت خائفًا جدًّا، ليس بسبب أن وجودي السابق في نيويورك قد ساعدني، ولكن لأن قدرتي على التواصل مع وول ستريت عبر التليفون كانت تعطيني شعورًا بالأسهم. لقد افتقدت ذلك لبعض الوقت، ولكن فيما بعد – مع اكتسابي بالتدريج للخبرة في مجال التداول باستعمال البرقيات – بدأت أرى مزايا ذلك. لا مكالمات هاتفية، لا ارتباك، لا شائعات مُتضاربة. هذه العوامل مجتمعة، أعطتني المزيد من الرؤية غير المتحيزة.

ما إن ألتقط من خمسٍ لثماني أسهم لأتابعهم في نفس الوقت، حتى أقوم بعزلهم أوتوماتيكيًّا من حركةِ مئاتِ الأسهم التي تحيط بهم. لم أتأثر بشيءٍ سوى أسعار أسهمي.

لم أكن أستطيع سماع ما يقوله الناس، ولكنني كنت أستطيع رؤية أفعالهم. كان ذلك أشبه بلعبة بوكر لا أستطيع فيها سماع المُراهنات، ولكنني كنت أستطيع رؤية كل أوراق اللعب.

لم أعرف أهمية هذا في ذلك الوقت، ولكن فيما بعد، أصبحت أكثر خبرة بالسوق، فأدركت كم أن هذا الانعزال مهم بالنسبة لي. بالطبع فإن لاعبي البوكر سيحاولون تضليلي بالكلمات، ولن يجعلوني أرى ما في أيديهم من أوراق. ولكن إذا لم أنصت لكلماتهم، ولم أتابع ما لديهم من أوراق لعب عن كثب، فإنني قد أستطيع تخمين ما يفعلونه.

بعد ذلك حاولت التدرب على الورق بدون استثمارات مالية. ولكن بعد فترة وجدت أن التدريبَ مختلفٌ عن الاستثمار الفعلي. كان مثل لعب الكوتشينة بدون أي دولارات للمراهنة. كان له نفس إحساس الأمان والإثارة، مثل لعب البريدج في منزل سيدة عجوز.

كل شيءٍ يبدو سهلًا جدًّا عند التدريب بدون وضع أموال على المحك. ولكن بمجرد أن أستثمر 10,000 دولار في سهم ما، فإن الصورة تصبح مختلفة تمامًا؛ فبدون المخاطرة بالأموال يمكنني بسهولةٍ التحكم بمشاعري، ولكن بمجرد أن أضع مالي في سهم، فإن مشاعري تطفو سريعًا على السطح.

استمرت تِلغرافاتي في الوصول يومًا بعد يوم، وببطء بدأت أتعود على الأسلوب الجديد في التعامل، وبدأت أشعر بالمزيد والمزيد من الثقة. هناك أمرٌ واحدٌ فقط أزعجني؛ ففي بعض الأحيان تقوم أسهمي بحركاتٍ يصعب تفسيرها، ولا ترتبط مع سلوكها السابق.

لقد حيرني ذلك، وفي أثناء بحثي عن تفسيرٍ لذلك، توصلتُ لاكتشافٍ بالغ الأهمية. لقد أدركتُ أنني وحدي. لقد أصبحتُ متأكدًا من أنني لن أتعلمَ المزيدَ من الكتب، ولا يمكن لأحدٍ أن يرشدَني. لقد كنت وحيدًا تمامًا مع تِلغرافاتي اليومية وأعدادي الأسبوعية من صحيفة البارونز؛ فهم وسيلتي الوحيدة للتواصل مع وول ستريت، التي تبعُد عدة آلاف من الأميال. فإذا أردت تفسيرًا، فعليَّ اللجوء إليهم.

لذا أقحمت نفسي في صحيفة البارونز. قلَّبت صفحاتها حتى إنها تحولت إلى أشلاء، إلى أن اكتشفت هذا: التحركات غير المبررة التي تقوم بها أسهمي غالبًا ما تتزامن مع بعض الحركات العنيفة للسوق ككل. ولأنني أتلقى أسعار الأسهم التي تخصني فقط، فقد كنت أتجاهل تمامًا التأثير الخاص بعموم السوق عليها. وذلك لم يكن أفضل من محاولة توجيه المعركة من خلال النظر لزاويةٍ واحدةٍ من أرض القتال.

كان ذلك اكتشافًا مهمًّا جدًّا بالنسبة لي. وعلى الفور بدأت أتصرف بناءً عليه، فطلبت من سمساري أن يضيف لنهاية برقياتي سعر الإغلاق الخاص بمؤشر داو جونز الصناعي؛ وذلك من وجهة نظري سيعطيني تصورًا واضحًا عن الكيفية التي يتصرف بها السوق ككل.

وبرقياتي الآن تُقرأ كما يلي:

“ب 32 ½ (34 ½ -32 ⅜) ل 57 (58 ⅝ -57) ي 89 ½ (91 ½ -89) أ 120 ¼ (121 ½ -120 ¼) ف 132 ¼ (134 ⅞ -132 ¼) 482.31”

عندما تلقيت تِلغرافي الأول بعد هذه الإضافة، كنت مثل طفلٍ وجد لعبة جديدة. اعتقدت أنني اكتشفت معادلة ذات صيغة جديدة تمامًا. وبينما أنا أحاول الربط بين مؤشر داو جونز الصناعي والأسهم التي أهتم بها، أدركت أنه عندما يصعد المؤشر، فكذلك ستفعل أسهمي.

بعد ذلك اكتشفت أن ذلك ليس سليمًا؛ فمحاولة ملائمة السوق إلى نمط جامد كانت خطأ. فقد بدا من المستحيل القيام بذلك. فكل سهم يتصرف بنحو مختلف. ولم يكن هناك شيء اسمه نموذج ميكانيكي. لقد أخطأت مرات عديدة قبل أن أطرح مؤشر السوق في مكانه الصحيح. لقد مر بعض الوقت قبل أن أكتشف أن مؤشر داو جونز الصناعي هو مجرد متوسط. إنه ببساطة يعكس السلوك اليومي لثلاثين سهمًا مُختارًا. الأسهم الأخرى تتأثر به ولكنها لا تتبع النموذج الخاص بحركته بصورة ميكانيكية. بدأت أيضًا أدرك أن شركة داو جونز ليست منظمة تهدف للربح. إنها لا تحاول إخبارك عن متى سوف يرتفع سهم محدد أو يهبط.

بمرور الوقت، بدأت أدرك أنني لا أستطيع تطبيق المعايير الثابتة للعَلاقة بين المؤشر العام والأسهم الفردية. الحكم على هذه العلاقة كان أشبه بالفن. في كثيرٍ من النواحي كان يشبه فنَّ الرسم؛ فالفنان يضع الألوان على قماش الرسم متبعًا قواعد محددة، ولكن من المستحيل له أن يفسر كيف يفعل ذلك. بنفس الطريقة وجدت أن العلاقة بين أسهمي ومؤشر السوق كانت تتبع مبادئ محددة، ولكن لا يمكن الحُكم على هذه القواعد بدقة. منذ ذلك الحين، اتخذت قراري بالاستمرار في متابعة مؤشر داو جونز الصناعي، ولكن فقط لكي أقرر ما إذا كنت في سوق ضعيف أم قوي. لقد قمت بذلك لأنني أدركت أن الدورة العامة للسوق تؤثر على جميع الأسهم فيه. إن الدورات الرئيسية مثل دورة السوق الصاعد ودورة السوق الهابط غالبًا ما يتسلل تأثيرها لمعظم الأسهم.

والآن، متسلحًا باللمسات الأخير لنظريتي، كنت أشعر بأنني أقوى. شعرت كما لو كنت قد بدأت ألمِس بعض مفاتيح الإنارة التي من شأنها إضاءة الغرفة.

لقد اكتشفت أنني يمكنني أن أكوِّن رأيًا عن السوق من خلال البرقيات التي أمامي. لقد أصبحوا مثل أشعَّةِ إكس بالنسبة لي. للمبتدئين، صورة أشعة إكس لا معنى لها، ولكن للدكتور الطبيب فهي تحتوي غالبًا على كل المعلومات التي يريد معرفتها. إنه يربط ما تُخبره به الأشعة بطبيعة وطول فترة المرض وعمر المريض… الخ، وعندها فقط يمكنه وضع الاستنتاج.

وبالنظر لبرقياتي، كنت أفعل شيئًا مماثلًا. كنت أقارن أسعار أسهمي أولًا بعضها ببعض، ثم بمؤشر داوجونز، وبعد أن أقيِّم نطاق حركتهم، أقرر إذا كنت سأشتري أو أبيع أو أحتفظ.

كنت أقوم بذلك بصورة أوتوماتيكية بدون المزيد من التحليل العميق. لم أكن أستطيع شرح ذلك كاملًا لنفسي حتى أدركت أنني الآن أقرأ الأبجدية ولم أعد أتهجأ الحروف. أصبحت أقوم بما يقوم به الراشدون. أصبحت أستطيع من نظرة واحدة أن أفهم الصفحات المطبوعة، وأرسم تحليلًا سريعًا منها، بدلًا من وضع الحروف جنبًا لجنب مثل الطفل.

تزامنًا مع ذلك الأمر، بدأت أُدرِّب مشاعري، وكنت أعمل بالأسلوب التالي: حينما أشتري سهمًا، كنت أكتب أسبابي للقيام بذلك. فعلت نفس الشيء عندما أبيعه. وأينما انتهت صفقة بخسارة، كنت أدون الأسباب التي أعتقد أنها أدت لذلك. ثم كنت أحاول ألا أكرر نفس الغلطة. وهذا هو أحد جداولي وكيف يبدو:

 شراءبيعسبب الخطأ
سهم “جزيرة كريك للفحم” ISLAND CREEK COAL  4643 ½شراء مُتأخر.
سهم “صناعة البهجة” JOY MANUFACTURING6260 ⅝وقف الخسائر قريب.
سهم “الشرق للغاز والوقود” EASTERN GAS & FUEL27 ¾25 ⅛التغاضي عن الضعف العام للسوق.
سهم “ألكوا” ALCOA118116 ½شراء وقت الهبوط.
سهم “كوبير – بيسمر” COOPER-BESSEMER55 ⅜54توقيت خاطئ.

لقد ساعدني جدولُ التجربة والخطأ على نحوٍ لا يمكن قياسه. كلما قرأت واحدة تلو الأخرى من التعليقات في الجدول كنت أتعلم شيئًا من كل صفقة. بدأت أرى أنَّ للأسهمِ شخصياتٍ مثل البشر. إن ذلك ليس خَاليًا من المنطق لحدٍّ بعيدٍ، لأن الأسهم تعكس بصدقٍ شخصيةَ البشر الذين يبيعونهم ويشترونهم.

مثل البشر تتصرف الأسهم بطرق مختلفة. بعضها هادئ، بطيء، متحفظ. البعض الآخر واثب، عصبي، متوتر. وجدت أن بعضها يسهل التنبؤ بتصرفاته. كانوا ثابتين في حركاتهم، منطقيين في تصرفاتهم. كانوا مثل الأصدقاء الذين يمكن الاعتماد عليهم.

ومنهم من لم أستطع التعامل معه. في كل مرة أشتريهم فيها كانوا يسببون لي الجروح. لقد كان هناك شيء بشري في تصرفاتهم. بدا عليهم أنهم لا يريدونني. لقد ذكَّروني برجلٍ تحاول كسب صداقته ولكنه يعتقد أنك أهنته فيقوم بصفعِك. لقد بدأت أفكر في المشهد على أنه لو صفعتني هذه الأسهم مرتين فإنني سأرفض لمسها مرة أخرى. سوف أنفُض الضربة وأذهب بعيدًا لشراء شيء أستطيع السيطرة عليه بصورة أفضل. إن ذلك لا يعني بالطبع أن الأشخاص الآخرين أصحاب الطباع المختلفة عن طبعي لا يمكنهم أن يكونوا على ما يُرام مع هذه الأسهم، مثلما يستطيع بعض الأشخاص أن يتأقلموا مع أشخاص آخرين أفضل من غيرهم.

الخبراتُ التي اكتسبتها من خلال جدول التجربة والخطأ الخاص بي أصبحت واحدة من أهم مؤهلاتي. لقد أدركت الآن أن هذه الخبرات ما كان باستطاعتي أن أتعلمها من الكتب. لقد بدأت أرى أنها تشبه خبرات قيادة السيارة؛ فقائد السيارة يمكن تعليمه كيفية استعمال ناقل السرعات، عجلة القيادة والفرامل ولكن ما زال عليه أن يطوِّر أسلوبه الخاص في القيادة. لا يمكن لأحد أن يخبره إذا كان قريبًا من السيارة التي أمامه أو متى يجب أن يهدئ السرعة؛ فهذه الأشياء لا يمكن أن يتعلمها إلا مِن خلال الخبرة فقط.

بينما كنت أجوب العالم وأتاجر في وول ستريت باستخدام البرقيات، بدأت أرى ببطءٍ أنه بينما بدأت أصبح خبيرًا بتشخيص السوق، فإنني لا أستطيع أن أقرأ المستقبل. فعندما أتفحص سهمًا وأرى أنه قوي، فكل ما كنت أستطيع قوله كان: إنه بصحة جيدة الآن، هذا اليوم، في هذه الساعة. ولا يمكنني أن أضمن أنه لن يُصاب بالبرد غدًا. إن تخميناتي العلمية، مهما كانت متحفظة، فإنها كانت تخطئ في كثيرٍ من المرات. ولكن ذلك لم يعد يزعجني بعد الآن. وبعد التفكير في كل شيء، مَنْ أكون أنا لأقول لسهم ما يجب وما لا يجب فعله؟

حتى أخطائي لم تجعلني حزينًا. إذا كنت على صواب فهذا جيد. إن كنت على خطأ، كنت سأجد نفسي بعت. كان ذلك يحدث بصورة آلية وكأنه بعيدٌ عني. لم أعد بعد الآن أشعر بالفخر لأن السهم قد ارتفع. لم أعد أشعر بالجرح إذا انخفض. أعرف الآن أن كلمة “القيمة” لا يمكن استخدامها في علاقة مع الأسهم؛ فقيمة السهم في سعره المُعلن. وهذا بدوره يعتمد كليًّا على العرض والطلب. أخيرًا أدركت أنه لا يوجد سهم بسعر 50 دولارًا. إذا انخفض سهم بـ 50 دولارًا إلى 49 دولارًا، إذًا فهو الآن بـ 49 دولارًا. بوجودي بعيدًا آلاف الأميال عن وول ستريت، استطعتُ أن أعزلَ نفسي عاطفيًّا عن كل سهمٍ أمتلكُه.

كذلك قررتُ ألا أتأثر بمشاكل الضرائب. كثير من الناس يحتفظون بالسهم لستة أشهر من أجل الحصول على مزايا المكاسب الرأسمالية على المدى الطويل. كُنت أعتبر ذلك خطرًا. فقط أخسر الأموال لاحتفاظي بسهم خاسر لمجرد الأسباب المتعلقة بالضرائب.

لقد قررت أن أُضارب في السوق من خلال فعل الشيء الصحيح أولًا من خلال متابعة ما يأمر به سلوك السهم والاهتمام بالضرائب فيما بعد.

وكأن الأسهم صُنعت لتؤكد موقفي الجديد، كنت أحتفظ بها بنجاح لفترة. كنت أشتري بثقةٍ جريئةٍ عندما كنت أعتقد أنني على صواب وبارد عاطفيًّا، وبدون أذًى نفسي، وكنت أتقبل خسائري المحدودة عندما يثبُت أنني مخطئ.

إحدى أفضل صفقاتي كانت في سهم “كوبير – بيسمر”. لقد اشتريت ثلاث مرات في هذا السهم، كل منها بـحجم 200 سهم. اثنتان من هذه الصفقات انتهتا بخسائر، ولكن الثالثة صنعت لي أرباحًا مجزية. ها هي تفاصيل هذه العمليات:

نوڤمبر 1956
 شراء على 46(9,276.00 دولار) 
 بيع على 45 ⅛(8,941.09 دولار) 
   334.91 دولار خسائر
ديسمبر 1956
 شراء على 55 ⅜(11,156.08 دولار) 
 بيع على 54(10,710.38 دولار) 
   445.70 دولار خسائر
يناير – أبريل 1957
 شراء على 57(11,481.40 دولار) 
 بيع على 70 ¾(14,056.95 دولار) 
   2,575.55 دولار أرباح

أسهم قليلة أخرى مثل “دريسر للصناعات” DRESSER INDUSTIRES و”رينولدز للمعادن” REYNOLDS METALS تصرفت بنفس القدر من النجاح وأعطتني أرباحًا مرضية. ولكن بعد ذلك في صيف 1957 – عندما كنت في سنغافورة – تطورت مجموعة من الأحداث المؤسفة.

اشتريت “بالتمور وأوهايو للسكك الحديدية” BALTIMORE & OHIO RAILROAD على 56 ¼. كنت أعتقد أنه في صندوق 56/61 وأنه سيصعد. ولكنه بدأ يهبط وبعته على 55.

ثم حاولت مع “دوبكمن” DOBECKMUN. قدَّرت أنه في صندوق 44/49، فاشتريته على 45، فبدأ ينزلق وبعته على 41.

اشتريت “دايستورم” DAYSTORM على 44 لأنني اعتقدت أنه يصعد على صندوق 45/50، وبعته على 42 ¼.

اشتريت “فوستر ويلر” FOSTER WHEELER على 61 ¾ لأنني اعتقدت أنه داخل صندوق 60/80. عندما غير اتجاهه ببطء ضدي، فبعته أسفل الـ 60 بقليل على 59 ½.

وسهم “آيركيب” AIRQUIP كان الأخير. اشتريته على أسعار تتراوح ما بين 23 ¼ و27 ⅝. وشاهدته يصعَد نحو الـ 30، وانتظرت صندوق الـ 31/35 حتى يتكوَّن. ولكن لم تحدث الأمور كما هو مخطط لها، وتم تفعيل أمر وقف الخسائر لسهم “آيركيب” على 27 ½.

أخيرًا في 26 أغسطس 1957، وجدتُ نفسي بلا سهمٍ واحدٍ. فوقف الخسائر الآلي جعلني أبيع كلَّ شيءٍ. على مدى شهرين، كل واحد من أسهمي أخذ ببطء يعكس اتجاهه وواحد تلو الآخر أخذوا يرتخون تحت الحد السفلي لصناديقهم، وواحد تلو الآخر تم بيعهم حتى لو كان بفرق نصف نقطة فقط.

لم يعجبني الأمر، ولكن لم يكن بيدي شيء لأفعله؛ فوفقًا لنظريتي، فإن عليَّ الجلوس هادئًا والانتظار بصبرٍ حتى يقوم واحد أو أكثر من الأسهم التي أُخرِجت منها، أو أي سهم آخر أراقبه بالذهاب إلى صندوق جديد أعلى من الحالي.

بكثير من الحرص والقلق، جلست أشاهد ما يحدث من على كُرسي المتفرجين، وبدون استثمار دولار واحد، بينما استمرت الأسعار في الانخفاض.

ولكن لم تظهر أي فرصة. ما عرفته هو أننا كنا في نهاية أحد أكبر دورات السوق صعودًا. كان ذلك قبل عدة أشهر قبل أن يصبح الأمرُ واضحًا ويتم إعلان أننا في سوق هابط. نصف خبراء وول ستريت ما زالوا يناقشون ذلك. يقولون إنه مجرد رد فعل متوسط الأجل، مؤقت في صعود السوق. لقد أجمعوا جميعًا على ذلك، ومع هذا انهارت الأسعار.

بالطبع كل هذه الآراء تُعبر عن الإدراك المتأخر، عندما يكون قد فات الأوان. إن النصيحة بالخروج من السوق ليست متوفرة عندما نحتاجها.

إن ذلك يذكرني بهتلر عندما أراد غزو مدينة ستالينغراد؛ فبالنسبة له كانت مجرد مدينة روسية أخرى سيتم غزوها واحتلالها. لم يكن أحد ليعلم أنه بينما كانت معركة ستالينغراد قائمة، أنها ستكون نقطة التحول في مسار الحرب. لوقتٍ طويلٍ أدرك قليلٌ من الناس ذلك.

حتى عندما كان الجيش الألماني في منتصف طريق العودة، كان الكلام لا يزال ساريًا عن أنه انسحابٌ استراتيجي. ولكنها في الحقيقة كانت نهاية هتلر. إن السوق النازي الصاعد انتهى عندما هاجم هتلر ستالينغراد.

بنفس الأسلوب، أدركت أنني من المستحيل أن أقيِّم نقاط التحول التاريخية العظيمة في السوق بمجرد أن تبدأ في الحدوث. ما أدهشني – بينما استمرت أسعار وول ستريت في الهبوط – هو إدراكي التدريجي أن نظامي للتملص السريع باستخدام وقف الخسائر جعل ذلك التخمين بدون أهمية.

لقد ابتهجت لاكتشافي أن طريقتي تعمل أفضل مما حلمت به. لقد عملت أوتوماتيكيًّا على إخراجي بنجاح قبل أن تأتي الأوقات السيئة؛ فالسوق قد تغير ولكنني عندها كنت خارجه.

الجانب الأكثر أهمية بالنسبة لي كان عدم وجود أي تلميح بالنسبة لي على الإطلاق بأن السوق سينزلق لأسفل. وكيف كان لي أن أحصل على أيه معلومات؟ لقد كنت بعيدًا معظم الوقت. لم أكن أستمع لأي تنبؤات. لم أدرس أي بيانات مالية، ولم أستمع لأي شائعات. ببساطة قد خرجت من السوق معتمدًا على سلوك الأسهم التي أتابعها.

بعد ذلك عندما أخذت أدرس سلوك الأسهم التي بعتها آليًّا، وجدت أنها قد تراجعت لأسفل بشدة في فترة الركود. انظروا للجدول التالي:

 1957 بِعت على:1958 أدنى سعر1958 أعلى سعر
سهم “بالتموروأوهايو للسكك الحديدية” BALTIMORE& OHIO RAILROAD5522 ⅝45 ¼
سهم “دايستورم” DAYSTORM42 ¼3039 ¾
سهم “فوستر ويلر” FOSTER WHEELER59 ½25 ⅛39 ⅛
سهم “آيركيب” AIRQUIP27 ½16 ⅞25 ¾
سهم “آليد للتحكم” ALLIED CONTROL48 ¼33 ½46 ½
سهم “دريسرللصناعات” DRESSER INDUSTIRES54 ½3346 ⅝
سهم “صناعة البهجة” JOY MANUFACTURING683854 ½
سهم “أليغني لديوم” ALLEGHENY LUDLUM56 ½30 ⅛49 ⅜

عندما أنظر لهذا الجدول، أفكر في ذلك: إذا لم يخرجني وقف الخسائر من السوق، لكنت قد خسرت 50 % من استثماراتي. كنت سأبدو كرجل في زنزانة، محبوس فيها بواسطة ما لديَّ، وأفتقد الفرص لصنع الثروة. والطريق الوحيد للنجاة كان بتحطيم الجدار، وتقبل 50% خسارة، وربما أدمر نفسي وأُضعِف ثقتي في صفقاتي المستقبلية.

بالطبع كان يمكنني شراء هذه الأسهم والاحتفاظ بها؛ فهذا حل كلاسيكي بين من يسمون أنفسهم مستثمرين متحفظين. ولكنني أراهم الآن كمقامرين بصورةٍ بحتةٍ. كيف يمكن أن لا يكونوا مقامرين وهم يبقون السهم حتى عندما يهبط؟ الشخص الذي لا يقامر يجب أن يخرج من السوق عندما تسقط الأسهم. إنهم يحتفظون اعتمادًا على الأمل الأبديِّ للمقامرين في ظهور بطاقة الحظ.

لقد فكرت في هؤلاء الذين دفعوا 250 في سهم “نيويورك المركزي” NEW YORK CENTRAL في 1929. إذا كانوا ما زالوا يحتفظون به لليوم، فهو يساوي 27. ورغم ذلك فإنهم سيغضبون لو دعاهم أحدُهم (المقامرين)!

في هذه الأجواء من عدم المقامرة، استلمت كشف حسابي الشهري في الأسبوع الأول من سبتمبر 1957، وبدأت أتفحص حساباتي. فوجدت أنني استعدت الأموال التي فقدتها في سهم “جونز ولوهلن” وأن رأس مالي الأولي المكون من 37,000 دولار كان تقريبًا سليمًا تمامًا من الأذى. الكثير من عملياتي كانت ناجحة بشكل مقبول، لكن العمولات والضرائب أخذت مني قسطًا كبيرًا.

عندما فحصت كشف الحساب بصورةٍ مقربةٍ أكثر، وجدت أنني – بلا حسد – قد خرجت من أكبر سوق صاعد في التاريخ بكثير من الخِبرة، وكم وافر من المعرفة، والكثير من الثقة، وصافي خسارة 889 دولارًا.

العودة إلى الفهرس

Scroll to Top