أكيد بعد ما حضرتك قريت كل الكلام اللي فات جالك إحساس إن النجاح في مجال البورصة مستحيل… صح…
طب إيه رأيك إني في المقالة دي حاوري حضرتك مثال حي لشخص بدأ ضحية للمشاكل النفسية للبورصة بكل معنى الكلمة وانتهى لمُضارب حول 36 ألف دولار لأكثر من 2 مليون دولار… بعد كدة ألف كتاب حكى فيه قصته بالتفصيل وبالأدلة والإثباتات…
بس قبل ما أتكلم عايزك تعرف إن القصة دي حصلت في الخمسينات… يبقى حضرتك تعيش معايا مود الخمسينات… الرجالة اللي لبسة بدل وكرفتات والستات اللي كانت بتلبس فساتين قصيرة… تمام زي أفلام عبد الحليم وفريد الأطرش… في الأيام دي الرقص في المسارح كان عادي… والستات كانت بتلبس قصير زي في الأفلام الأبيض والأسود بالضبط…
الشخص اللي حـ حكي حكايته اسمه نيكولاس دارفاس Nicolas Darvas… كان مَجري الأصل هرب لأمريكا وهو شاب صغير بعد ما دخل الألمان المَجر… نيكولاس دارفاس كان بـ يحب الفنون الاستعراضية بس كان خجول حبتين على حد تعبيره… عشان كدة أختار مجال الرقص على خشبة المسرح وتقديم الفقرات الاستعراضية هو وزميلته جوليا… أتقن نيكولاس دارفاس مهنته بدرجة كبيرة وعمل منها قرشين كويسين…
في يوم من الأيام سنة 1952 كان فيه اثنين إخوات بـ يمتلكوا مسرح طلبوا من دارفاس تقديم عرض على خشبة مسرحهم مقابل إنهم يبيعوا لدارفاس كمية من أسهم البورصة الكندية مع ضمان إن سعرها لو نزل عن حد معين هما يتحملوا الفرق… والضمان ساري لمدة ست شهور من إبرام العقد… دارفاس وافق وبعدين اعتذر عن تقديم العرض فاشتري الأسهم منهم عشان ما يحرجش نفسه معاهم ودفع 3,000 دولار…
بعد فترة فتح دارفاس الجرنال فلقى الأسهم أم 3,000 بقت تساوي 11,000 دولار فباع فورا وقرر إنه لازم يدخل البورصة ويبقى عضو بارز فيها…
وكان أول حاجة عملها هي إنه بدأ يستغل معرفته برجال الأعمال وأصحاب المناصب بحكم شغله في المسارح وبدأ يسأل كل واحد يعرفه عن سهم يشتريه… والجميل في الموضوع إنه لما كان بـ يسأل أي حد كان بـ يديله إجابه على طول وكأن هو الوحيد اللي ماكنش يعرف حاجة عن البورصة وباقي الناس كلهم عارفين!… وطبعا كل الأسهم اللي اشتراها بناء على التوصيات دي خسرت… لأنها توصيات من ناس مش فاهمة ومش دارسة…
بعد كدة أصحابه رشحوا له واحد خبير في البورصة وقالوا له إن هو ده اللي عنده السر!… راح دارفاس يزور خبير البورصة في مكتبة وطلب منه النصيحة والخبير إدا له توصية على سهم محدد ودارفاس ما كذبش خبر وراح شاري ألف سهم وبعد كام أسبوع سعر السهم نزل وخسر دارفاس…
في الوقت ده نيكولاس دارفاس كان جاهل جدا لدرجة إنه ما كنش يعرف حاجة عن عمولات السمسار… وفـ مرة من المرات دخل سهم وطلع منه وهو معتقد إنه كسبان لكن لما كلم السمسار أكتشف إنه خسران لأن العمولة أكلت المكسب!…
ومن الغلطات الكبيرة اللي وقع فيها هي إنه كان بـ يتعاطف مع الأسهم اللي بـ يشتريها… كان يشتري السهم من دول وبعدين يتمنى إنه يرتفع ويبقى شايفه بـ يقع ومعتقد إنه حـ يطلع لمجرد أن هو حاسس بكدة!…
بعد كدة قرر دارفاس إنه يعتمد على المنشورات الاقتصادية المدفوعة اللي بـ تدي توصيات للعملاء… وكان شايف إن الناس دي خبراء بجد وأن رأيهم لازم يكون صح!… لكن الغريب في الموضوع إنه لما كان بـ يشتري على توصياتهم كانت الأسهم في الغالب بـ تنزل على طول… بعد فترة فهم أن الناس دي لا خبراء ولا حاجة وإنهم بيشتغلوا عند كبار المستثمرين اللي بـ يدوهم أوامر بأنهم يعملوا دعاية لسهم فيدخّلوا صغار المُضاربين في السهم في نفس التوقيت اللي فيه الكبار يخرجوا!…
كمان دارفاس جرب أقوال البورصة أو أمثلة البورصة زي مثلا “بيع بسرعة تكسب كثير”… وكانت النتيجة إنه كان بـ يشتري السهم ولما يعمل مكسب صغير يبيع على طول لكن لو خسر يستنى يمكن يعوض وبالتالي مكاسبة كانت كثير وصغيرة وخسايره كانت قليلة بس كبيرة وبتآكل كل المكاسب الصغيرة… يبقى أقوال وأمثلة البورصة هي كمان ما ساعدتهوش في حاجة…
بعد كدة قرر نيكولاس دارفاس إنه يسيب بورصة كندا ويروح بورصة أمريكا لأن شكلها أشيك وحجمها أكبر…
ومشى في نفس الطريق ثاني… السمسار يدي له توصيات فيخسر… النشرات الاقتصادية تديله توصيات فيخسر وهكذا…
هنا وقف نيكولاس دارفاس مع نفسه وحط لنفسه سبع قواعد نفعته كثير:
- ممنوع توصيات من الأصدقاء والنشرات الاقتصادية
- الحذر في التعامل مع توصيات السماسرة
- تجاهل الأمثلة الشعبية للبورصة
- مفيش تعاملات خارج المقصورة والتعامل في السوق الرسمي بس
- الحذر من الإشاعات
- التحليل المالي للقوائم والميزانيات مفيد وبـ يكسب
- سابع وأهم قاعدة وهي التمسك بالسهم الكسبان أطول فترة ممكنة
بدأ دارفاس يحلل الأسهم ماليا وبعد فترة أصبح خبير في موضوع تحليل قوائم وميزانيات الشركات خصوصا بعد ما قرأ عدد كبير من الكتب عن البورصة والاستثمار… والسمسار عرّفه بدورية اقتصادية تساعده في تقييم الأسهم ماليا واللي من خلالها توصَّل لسهم المفروض إنه حـ يطير من 52 دولار لـ 75 دولار على أقل تقدير…
حس دارفاس إنه اتغير وأن الكتب اللي قرأها والأسلوب العلمي اللي مشى عليه حـ يوصله لبر الأمان فقرر إنه يحط جزء كبير من ممتلكاته وتعب وشقي السنين في السهم ده… بس للأسف السهم بدأ ينزل وينزل لغاية لما أعصاب نيكولاس دارفاس انهارت وقرر البيع وقبل بالخسارة…
خسارة دارفاس المعنوية كانت أكبر من خسارته المادية… إحساسه بأن مفيش حاجة نافعة مع السوق لا توصيات نافعة ولا إشاعات ولا علم نافع خلاه يحس بخيبة أمل كبيرة… وفي نص إحساسه بالضياع لقى سهم هو ما يعرفش عنه حاجة خالص بس كل الحكاية إنه كان بـ يطلع… السهم بـ يطلع ليه محدش يعرف… هنا قرر دارفاس يجرب حظه للمرة الأخيرة فأشترى كمية كويسة… فطلع السهم بيه… فقرر لأول مرة في حياته إنه يصبر وما يبيعش بسرعة… فكانت النتيجة إنه عوض نص خسارته…
من هنا بدأ نيكولاس دارفاس يحط إيده على الخيط اللي وصله للنظرية العلمية السليمة والمناسبة للتعامل مع البورصة وهي نظرية التحليل الفني ودراسة حركة الأسعار…
بدأ دارفاس يدرس الرسوم البيانية للأسهم ويقرأ كتب التحليل الفني لغاية لما حط لنفسه تصور سليم عن الموضوع… وقرر إنه يشتغل بالتحليل الفني ويجرب أسلوب علمي عملي جديد ومختلف…
وفعلا بدأ النجاح يظهر… بس ظهرت حاجة جديدة…
في نفس الوقت اللي لقى فيه دارفاس ضالته المنشودة وعرف من أين تؤكل الكتف في البورصة كان لازم عليه إنه يسافر في رحلة مع فريق الرقص بتاعه حول العالم… طب يشتغل في البورصة إزاي وهو بره أمريكا؟ …
هنا اخترع نيكولاس دارفاس نظام خاص للتواصل بينه وبين السمسار من خلال التِلغرافات… النظام ده أنا باعتبره أول نظام تداول إلكتروني بين شركة سمسرة وعميل…
الميزة السيكولوجية في نظام التِلغراف بتاع نيكولاس دارفاس كانت في إنه بـ يعزله تماما عن البورصة وفي نفس الوقت بيدي له المعلومات اللي هو محتاجها بس… لكن هو ماكنش حاسس بالميزة دي وقتها أو بمعنى أصح ما كنش لسه عرفها بس كان بـ يستفيد منها…
لف نيكولاس دارفاس العالم وقدم العرض الراقص بتاعه في باريس، الهند، كشمير ودول ثانية كثير… وقدر وهو بره أمريكا إنه يعمل ثروة قدرها نص مليون دولار من التداول في البورصة… خلي بالك إحنا بـ نتكلم عن نص مليون في الخمسينات يعني شوف يعملوا كام دلوقت… وبعد ما خلص العرض قرر إنه أول ما يرجع أمريكا يبدأ التداول من داخل شركات السمسرة!… كان بـ يسأل نفسه إنه لو كان يقدر يعمل نص مليون وهو برة البورصة طب لما يكون جواها حـ يعمل كام؟ …
اللي ما كنش فاهمه ساعتها هو إن الحفاظ على النجاح أصعب من النجاح ذاته… هو كان مفكر أن خطة التحليل الفني بتاعته هي السبب في نجاحه… لكن الحقيقة كانت غير كدة خالص…
بعد ما رجع نيكولاس دارفاس لأمريكا أختار شركة سمسرة كبيرة عشان يتابع فيها السوق… ولما راح هناك أنبهر بالمكان وشكل الناس وطريقة كلامهم… وبدأ يندمج معاهم شوية بشوية… ومع الوقت نسى كل القواعد اللي أتعلمها وبدأ يتغير وبدأت شخصيته تدوب في شخصية الناس اللي حواليه… الفلوس اللي كسبها قبل كدة خلته يتغر في نفسه ويفتكر أن مفيش حد قده… وبدأ يتخلى عن القواعد والأسس اللي عمل من وراها ثروته… بدأ يسمع كلام الناس اللي حواليه… ومن غير ما يحس أتحول لفرد في قطيع البورصة… يفرحوا يفرح معاهم… يزعلوا يزعل معاهم… والنتيجة إنه بدل ما يكسب ملايين زي ما كان متوقع خسر حوالي 100 ألف دولار يعني خُمس ثروته في أسابيع قليلة! … وهنا خاف وقرر إنه يدرس الوضع…
حس دارفاس أن فيه حاجة ضاعت منه لما رجع أمريكا بعد رحلته الراقصة حول العالم… حاسة سادسة بحركة الأسهم كانت معاه وأختفت فجأة… ولأنه عايز يرجعها ثاني قرر إنه يرجع يدور عليها من جديد… فحجز طيارة لفرنسا وطلب من السمسار بتاعه أنه يرجع يراسله بالتِلغرافات ثاني زي زمان…
بعد كام يوم بدأ نيكولاس دارفاس يستعيد حاسته السادسة بحركة الأسهم… وهنا عرف أن المشكلة كانت في اندماجه مع المُضاربين اللي حوله على حد تعبيره من ديب صياد لحمل في وسط قطيع من الغنم… وبعد ما عرف غلطته رجع أمريكا بعد ما حط لنفسه نظام خاص جدا للسيطرة على حالته النفسية والسيكولوجية اللي فهم أنها مفتاح نجاحه في البورصة…
قرر نيكولاس دارفاس إنه ما يحتكش نهائي لا من قريب ولا من بعيد بأي حد بـ يشتغل في مجال البورصة… وطلب من السمسار إنه يبعث له برقيات الأسعار على عنوانه في الفندق اللي ساكن فيه – دارفاس عاش طول عمره في الفنادق وتقريبا كان أعزب لحد ما مات… وكان بحكم شغله سنين طويلة كراقص بـ ينام طول النهار وبـ يصحى بالليل يأدي العرض بتاعه وبعد كدة يطلع على استقبال الفندق يأخذ التِلغرافات من عامل التِلغرافات ويشتري جرنال اقتصادي يأخذ منه صفحة الأسعار ويرمي الباقي في الزبالة ويطلع غرفته عشان يحلل السوق… ولو كان عايز يبعت أمر بيع أو شراء كان بيبعته للسمسار في صورة تِلغراف… وبكدة عزل نفسه تماما عن البورصة وكل اللي شغالين فيها… وبقى بـ ينام والبورصة صاحية… ويصحي و البورصة نايمة!…
قدر نيكولاس دارفاس بعد كدة إنه يسيطر على صفقاته بكل موضوعية وحكمة والنتيجة كانت إنه وصل بثروته لأكثر من 2 مليون دولار في 18 شهر بس… بعد كدة السوق الأمريكي وقع بس هو كان برة السوق…
لما قصة نيكولاس دارفاس انتشرت في السوق مجلة التايمز الأمريكية عملت معاه حوار اتنشر في المجلة وبعد كدة ألف كتاب حكى فيه حكايته…
نيكولاس دارفاس مثال واضح لمُضارب بدأ ضحية بكل معنى الكلمة فسمح للي حواليه أنهم يتحكموا فيه… ولكنه قرر أن ده مش مكانه ووصل بعد رحلة طويلة من التجربة والخطأ لطريقة يسيطر بيها على الإسقاطات السلبية للناس اللي حواليه وكانت النتيجة في النهاية مجزية والجايزة كانت ثروة قيمتها أكثر من إثنين مليون دولار… ويمكن إحساسه النفسي بالفوز والسيطرة على وضعه في السوق كانت أهم بالنسبة له من الفلوس نفسها… عشان كدة أنا كتبت مجموعة المقالات دي لأن بعد سنين طويلة من التعامل في البورصة اكتشفت أن نفسية المُضارب أهم عنصر ممكن يخليه يكسب ويستمر في البورصة… والناجحين في مجال البورصة ممكن يختلفوا مع بعض في الخطة اللي استعملوها أو طريقة إدارة رأس المال… لكن العنصر النفسي كان دائما عامل مشترك ما بينهم… وبناء سيكولوجية نفسية سليمة للتعامل مع أسواق المال كانت السبب الرئيسي وراء نجاح من نجحوا في هذا المجال…