هل يمكن لمجموعة من سيدات الطبقة المتوسطة، ربات بيوت، ممن تخطت اعمار البعض منهم الثمانين عامًا، ويعشن في مدينة صغيرة لا يتعدى عدد سكانها الستة آلاف نسمة أن يكونوا محفظة استثمارية تحقق معدل عائد على الاستثمار يتفوق على متوسط عائد مؤشر “ستاندرد آند بورز” Standard & Poor’s؟ هذه هي قصة “سيدات بيردستاون” التي ستقرؤنها في هذا المقال.
بداية القصة
قصتنا بدأت في مدينة صغيرة تقع في الغرب الأوسط من الولايات المتحدة، اسمها “بيردستاون” Beardstown في ولاية “إلينوي” Illinois، وهي مدينة هادئة لحد بعيد، وتعداد سكانها لا يزيد عن ستة آلاف نسمة.
منذ أكثر من أربعين عامًا عاشت في هذه المدينة سيدة اسمها “بيتي سينوك” Betty Sinnock كانت تعمل في قسم الصرافة في بنك المدينة. لاحظت “بيتي” أن الكثير من العملاء يأتون إلى البنك لصرف كوبونات الأسهم التي يمتلكونها؛ وكانت الكوبونات بمبالغ كبيرة، مما لفت انتباه “بيتي” وجعلها تتساءل “لماذا لا اشتري أسهم وأحصل على كوبونات أرباح مثلهم؟” وهنا ظهرت مشكلة. فسماسرة الأسهم لا يحبون التعامل مع كبار السن. وهنا قررت “بيتي” أن تنشأ ناديها الخاص للاستثمار في الأسهم.
ما هو نادي الاستثمار؟
هو عبارة عن مجموعة من الأفراد المهتمين باستثمار أموالهم في أسواق المال. يقوم أفراد المجموعة بإيداع أموالهم في نادي الاستثمار في صورة حصص أو مبالغ ثابته – مثلًا 1000 دولار لكل فرد – كذلك يدفع أعضاء النادي مبلغ آخر بصفة دورية مقابل عضوية النادي. بعد ذلك يجتمع الأعضاء في مواعيد ثابتة، حيث يتم مناقشة أفكارهم للاستثمار في الأسهم، ثم يتم اتخاذ القرار ببيع أو شراء ورقة مالية ما بناء على عملية التصويت التي تتم بين الأعضاء.
نشأة نادي “سيدات بيردستاون” للاستثمار في الأسهم
حكت “بيتي” فكرتها إلى صديقتها الكيميائية السابقة ” شيرلي جروس” Shirley Gross واتفقت السيدتان على انشاء نادي للاستثمار في الأسهم. وبالفعل في يوم 3 نوفمبر 1983 تم انشاء “نادي بيردستاون للسيدات محترفي الاستثمار والاعمال” والذي عرف اختصارًا بنادي “سيدات بيردستاون” “Beardstown Ladies”.
انضم للنادي أربعة عشر سيدة أخرى ليصبح أجمالي العدد ستة عشر سيدة، معظمهم جدَّات أعمارهم فوق الستين عامًا، وكانوا يعملون في وظائف الطبقة المتوسطة حتى التقاعد. سيدات عاشوا حياتهم في بساطة وهدوء بعيدًا تمامًا عن دنيا الاستثمار والمال والأعمال. معظمهم كبار في السن ولديهم أحفاد. فكان لهم 30 أبن وأبنة، و40 حفيد وحفيدة، وسبعة من أحفاد الأحفاد. ويمكنك التعرف عليهن من الجدول التالي
الاسم | العمر | الوظيفة |
Hazel Lindahl | 87 | ممرضة متقاعدة |
Sylvia Gaushell | 82 | مدرسة متقاعدة |
Helen Kramer | 78 | موظفة بنك متقاعدة |
Lillian Ellis | 77 | مساعدة دكتور أسنان متقاعدة |
Shirley Gross | 77 | كيميائية طبية متقاعدة |
Elsie Scheer | 76 | مزارعة متقاعدة |
Ruth Juston | 75 | مالكة لمتجر تنظيف ملابس |
Maxine Thomas | 73 | صرافة بنك متقاعدة |
Doris Edwards | 72 | مدير مدرسة ابتدائية |
Carnell Korsmeyer | 67 | صاحبة مزرعة حيوانات |
Ann Corley | 66 | ربة منزل متقاعدة |
Betty Sinnock | 62 | صرافة بنك متقاعدة |
Ann Brewer | 60 | سكرتيرة |
Margaret Houchins | 53 | صاحبة محل لبيع الورود |
Carol McCombs | 44 | موظفة وكالة التأمين |
Buffy Tillitt-Pratt | 41 | سمسارة عقارات |
كما نرى من الجدول، أن معظم هؤلاء السيدات لم يكن لهم أي علاقة بالاستثمار في أسواق المال. فهم لا يعرفون أي شيء عن قراءة القوائم المالية، أو البيانات الاقتصادية. ولكن على الرغم من ذلك فقد كانت حماستهم عالية للدخول في هذا المجال الجديد بالنسبة لهم، وقد اعتمدوا على خبرتهم في الحياة؛ فهؤلاء السيدات قد واجهوا أصعب الظروف في حياتهم، فقد استطاعوا الصمود في وجهة التضخم والكساد العظيم، ومروا من الحروب المختلفة. أنهم يستطيعون تدبير أمورهم في أحلك الظروف، حتى لو كان هذا يعني الغوص في أعماق وول ستريت.
قواعد الاستثمار في نادي “سيدات بيردستاون”
في البداية قامت كل سيدة بدفع مبلغ 100 دولار، بالإضافة إلى 25 دولارًا شهريًا على شكل مستحقات. وكانوا يجتمعون مساء الخميس من كل أسبوع لمناقشة الأسهم التي سيشترونها. وقد قاموا بتوزيع العمل فيما بينهم بحيث تتبع كل واحدة منهم سهم معين ثم تبلغ المجموعة بالنتائج التي توصلت لها.
كانت السيدات متحمسات لعملهم في النادي، وكانوا يقومون بالبحث اعتمادًا على المجلات والدوريات الاقتصادية. كذلك فقد كانوا يتصلون برؤساء مجالس إدارة الشركات التي سيثمرون أموالهم فيها من أجل السؤال عن أحوال هذه الشركات. وكانت عملية اختيار الأسهم تتم وفق القواعد التالية
1. أن يكون سعر السهم السوقي أقل من 25 دولار.
2. أن تمتلك الشركة المساهمة خمسة أعوام على الأقل من النمو المتواصل في الأعمال.
3. أن تكون الشركة ضمن أفضل 25 قطاع في السوق.
4. أن تكون مديونية الشركة بالنسبة لقيمة أصولها لا تزيد عن الثلث.
5. أن يكون للشركة سجل حافل في ريادة الأعمال.
6. ألا تبيع الشركة أحد المنتجات المحرمة مثل الخمر والسجائر.
ولكن رغم وجود هذه القواعد فإنهم كانوا يعتمدون في بعض الأحيان على حدسهم في اختيار استثماراتهم. ومن الأمثلة على ذلك استثمارهم في أسهم شركة ” وول مارت” Walmart. كذلك فقد اشتروا أسهم شركة “هيرشي للحلويات” Hershey لأنهم ببساطة كانوا يحبون قراءة المقولات المكتوبة داخل أوراق السلوفان التي تغلف بها شكولاتة “القبلات” Kisses التي تنتجها الشركة!
ولكن فوق كل شيء فإن سيدات بيردستاون كانوا يحرصن على قضاء وقت ممتع مع بعضهم البعض. ولم لا، فهؤلاء السيدات المسنات في أمس الحاجة للصحبة الجميلة وهدوء النفس. لذلك فقد حرصوا دائمًا على بدأ جلستهم بقراءة الشعر وتقديم المأكولات الخفيفة والمشوبات. فالمسألة بالنسبة لهم كانت استثمار في الصحبة أكثر منها استثمار في الأسهم والسندات.
وحدثت المعجزة
استمر نادي “سيدات بيردستاون” في الاستثمار لمدة عشرة أعوام كاملة بدأ من 1984 وحتى 1993. وقد ذكرت تقارير النادي أن مبلغ الاستثمار الأصلي وهو 1600 دولار – 100 دولار عن كل سيدة – قد تضاعف ليصل إلى 80,000 دولار، متفوقًا على عوائد مؤشر “ستاندرد آند بورز” الأمريكي للأسهم.
منحت الرابطة الوطنية لنوادي الاستثمار (NAIC) “سيدات بيردستاون” تصنيف “كل النجوم” وهو أعلى مرتبة شرف، وذلك لخمس سنوات على التوالي. وهو ما جذب أنظار الآلة الإعلامية لقصة هؤلاء الجدَّات اللاتي قررن أن ينتقلن من إعداد فطائر التفاح الشهية إلى التفوق على أوقى المؤسسات المالية في الأداء.
سيدات بيردستاون والماكينة الإعلامية
بدأ الإعلام في تسليط الضوء على نادي سيدات بيردستاون بكثافة من خلال إجراء العديد من الأحاديث في التلفاز والإذاعة، هذا غير نشر قصتهم بشكل موسع في الجرائد المحلية. فالقصة في مضمونها تعتبر مثال للحلم الأمريكي الذي يَعِد بسطاء الناس حول العالم بأنهم سيجدون على أرض أمريكا كل ما يحلمون بهم. فها هي مجموعة من السيدات العجائز، واللاتي يعشن في مدينة بسيطة لا يعرف عنها أحد شيئا، استطاعوا أن يحققوا المستحيل بتفوقهم في عالم المال والأعمال الذي لم يسمعوا عنه شيئا في شبابهم… نعم أنه الحلم الأمريكي في أبهى صوره.
وبالاتفاق مع دار نشر اسمها “هايبريون” Hyperion، وهي أحد الشركات التابعة لعملاق الميديا ” شركة والت ديزني” The Walt Disney Company، قام نادي سيدات بيردستاون بتأليف سلسلة من الكتب التي تتحدث عن الاستثمار في وول ستريت، والتي باعت قرابة 1،100،000 نسخة. وفيما يلي أسماء هذه الكتب
The Beardstown Ladies’ Common-Sense Investment Guide, 1995 |
The Beardstown Ladies’ Stitch-In-Time Guide to Growing Your Nest Egg, 1996 |
The Beardstown Ladies’ Pocketbook Guide to Picking Stocks, 1998 |
قامت سيدات بيردستاون بالعديد من الجولات الإعلامية حول البلاد، كذلك فقد قاموا بتسجيل فيلم وثائقي حول قصتهم وطريقتهم في الاستثمار تحت أسم “طبخ الأرباح في وول ستريت” Cookin’ Up Profits on Wall Street. لقد كانوا مثالًا رائعًا للحلم الأمريكي، وبالتالي فإن الماكينة الإعلامية قد حاولت الاستفادة منهم قدر المستطاع.
الهبوط من القمة
وفي أحد اللقاءات الصحفية، قالت أحد سيدات بيردستاون “نحن نركب موجة ونريد أن نبقى عليها لأطول فترة ممكنة لأنها سوف تنتهي”. وهو ما حدث فعلا، وربما أسرع مما توقعه الجميع.
فكما يقول المثل “ترتفع البورصة على الإشاعة وتهبط على الحقيقة”. فبعد أن انتشرت أخبار سيدات بيردستاون بسبب الماكينة الإعلامية بدأ العديد من الأشخاص في التحقق من الأرقام المذكورة في تقارير نادي الجدَّات، فلعل الخرف نتيجة كبر السن قد أصابهم فقاموا بكتابة حسابات مغلوطة في تقاريرهم. وبالفعل فقد اتضح أن هذا هو ما حدث فعلًا.
في عام 1998 لاحظ “كيفن بايلوت” Kevin Pilot والذي كان يعمل كسمسار في مجموعة “ميريل لينش Merrill Lynch أنه من المستحيل أن تكون محفظة الأسهم الخاصة بسيدات بيردستاون قد حققت العوائد التي ذكروها في كتبهم. ومع توالي التقارير التي تتساءل حول تلك النقطة، قام أعضاء النادي بتعيين شركة للتحقيق القانوني في ذلك. وكانت المفاجأة بالنسبة لهم هي أن المحقق قد أثبت صحة الادعاءات ضد سيدات بيردستاون، والذين اعترفوا فيما بعد بأنهم قد ارتكبوا خطأ في حساب عوائد محفظتهم. فقد ذكروا في كتابهم الأول أنهم قد حققوا متوسط عائد سنوي قدره 23.4% خلال فترة استثمارهم التي امتدت ما بين 1984 وحتى 1993، بينما خلال نفس الفترة كان متوسط العائد السنوي لمؤشر “ستاندرد آند بورز” هو 14.9%. ولكن بعد تعديل هذا الخطأ اتضح أن محفظة سيدات بيردستاون كانت تنمو بمتوسط سنوي قدره 9.1% فقط وهو أقل بكثير من مؤشر “ستاندرد آند بورز” مما وضع سيدات بيردستاون في مازق حرج فعلًا بعد كل هذا الصخب والضجيج الإعلامي الذي انتشر حولهم.
وهنا انطلقت الماكينة الإعلامية في الاتجاه المعاكس، وبدأت حملة ضد نادي سيدات بيردستاون. أما عن الناشر الذي كان بالفعل قد باع أكثر من مليون نسخة من الكتب فقد تم مقاضاته بسبب نشر معلومات مزيفة، وحكم على الناشر التابع إلى “شركة والت ديزني” بدفع مبلغ سبعة عشر مليون دولار نظير اتعاب المحامين واجراء تسوية قضائية لحل المسألة.
قام نادي سيدات بيردستاون بنشر تعقيب على صفحات بيع الكتب يقول
عزيزي القارئ،
اكتشفنا مؤخرًا وجود أخطاء في طريقة حساب عائدات نادينا. وبشكل أكثر تحديدًا، فإن معدل العائد البالغ 23.4 % المشار إليه في أماكن مختلفة في هذا الكتاب يتعلق فعليًا بفترة عامين تنتهي في 31 ديسمبر 1992، وكان العائد لعام 1991 يبلغ 54.4 %. بلغ معدل العائد السنوي لنادي الاستثمار خلال السنوات العشر من إنشائه حتى عام 1993 9.1 %، وحتى نهاية عام 1997 كان 15.3 %.
نشعر بالأسى لوجود أي أخطاء في أرقامنا المالية. لا تزال أولوياتنا، كما كانت دائمًا، التعليم والتمتع والإثراء، بهذا الترتيب.
لقد قمنا بتضمين وصفات في الماضي، والآن نود أن نشارككم وصفتنا الخاصة بالفطيرة المتواضعة: قدر كامل من الأسف ممزوجًا باعتذاراتنا الصادقة. نشكر الجميع على دعمهم.
بإخلاص،
سيدات بيردستاون
نتاج تجربة نادي سيدات بيردستاون
لم تكن الضجة الإعلامية التي أحدثها نادي سيدات بيردستاون هينة. فخلال تلك الفترة ارتفع عدد نوادي الاستثمار في أمريكا من سبع آلاف نادي وصولًا إلى ثمانية وعشرين ألف نادي! أي أن عدد نوادي الاستثمار تضاعف أربع مرات، وهو قدر لا يستهان به. كذلك فمع حلول عام 1997 كان 47% من نساء الولايات المتحدة يستثمرون في سوق الأسهم، وهي نسبة كبيرة جدًا، خصوصًا عند مقارنتها بنسبة المستثمرين من الرجال التي لم تتخطى نسبة 44%. لذلك يمكننا القول بأن “ظاهرة نادي سيدات بيردستاون” كان لها أثر كبير على وعي النساء في أمريكا بأن من حقهم هم أيضًا الاستثمار وتحقيق الأرباح مثلهم مثل الرجال، وهو أحد أجزاء الحلم الأمريكي المتمثل في المساواة بين المرأة والرجل.
نادي سيدات بيردستاون اليوم
عزيزي القارئ الجميل، قد تعتقد أن التجربة قد انتهت هنا، ولكن يسعدني أن أخبرك بأن نادي سيدات بيردستاون مازال قائم حتى اليوم! هل تذكر الـ 30 أبن وأبنه والـ 40 حفيد وحفيدة … نعم لقد استمروا في مسيرة جداتهم وتركوا باب النادي الأيقوني مفتوح للاستثمار. لقد تخطت محفظة النادي الأصلية حاجز النصف مليون دولار من الأرباح، والتي بدأت على يد جداتهم بمبلغ ألف وستمائة دولار فقط. صحيح، أن أيام الشهرة والمجد قد ولت إلى غير رجعة ولكن الفكرة التي سعى إليها مجموعة من السيدات العجائز اللاتي عشن في مدينة هادئة في وسط الغرب الأمريكي ما زالت حاضرة. وربما يأتي اليوم الذي نسمع فيه من جديد عن نادي سيدات بيردستاون وكيف أنهم استطاعوا هذه المرة هزيمة وول ستريت، وبدون أخطاء حسابية.